سورة مريم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت ان الله سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه، روي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. والفري العظيم الشنيع، قال مجاهد والسدي، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري بمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل، والفري من الأسقية الجديد، وقرأ أبو حيوة {شيئاً فرْياً} بسكون الراء، واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل، {يا أخت هارون}. فقالت فرقة كان لها أخ اسمه {هارون} لأن هذا الاسم كان كثيراً في بني اسرائيل، تبركاً باسم هارون أخي موسى، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم {أخت هارون} وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، فالمعنى أنه اسم وافق اسماً، وقال السدي وغيره: بل نسبوها الى {هارون} أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخاً فلانة ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم»، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست بـ أخت لهارون أخي موسى، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى عليه وسلم قاله فهو أصدق وخير، والاَّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة، قال فسكتت. وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع الى الله يسمى هارون فنسبوها الى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلاً لما أتيت به. وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله، والمعنى {ما كان أبوك} ولا أمك أهلاً لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ والبغي التي تبغي الزنا أي تطلبه، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك.


التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] وإنما ورد انها {أشارت إليه} فيقوى بهذا القول من قال إن أمرها بـ قولي إنما أريد به الإشارة، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير {كيف نكلم من كان في المهد صبياً} وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها التامة وقد قال أبو عبيدة {كان} هنا لغو، وقال الزجاج والفراء {مَنْ} شرطية في قوله {من كان} ع ونظير كان هذه قول رؤية: [الرجز]
أبعد ان لاح بك القتير *** والرأس قد كان له شكير
و {صبياً} إما خبر {كان} على تجوز وتخيل في كونها ناقصة، وإما حال يعمل فيه الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن {المهد} يراد به حجر أمه قال لهم عيسى من مرقده {إني عبد الله} الآية وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و{الكتاب} هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل، ويكون الإيتاء فيهما مختلفاً، و{آتاني} معناه قضي بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى {أتى أمر الله} [النحل: 1]، وغير هذا. وأمال الكسائي آتاني وأوصاني والباقون لا يميلون، قال أبو علي الأمالة في {آتاني} أحسن لأن في {أوصاني} مستعلياً. و{مباركاً} قال مجاهد معناه نفاعاً، وقال سفيان معلم خير وقيل آمراً بمعروف ناهياً عن منكر، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه. وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال: {مباركاً} معناه قضاء للحوائج _ع وقوله {مباركاً} يعم هذه الوجوه وغيرها. و{الصلاة والزكاة} قيل هما المشروعتان في البدن والمال، وقيل زكاة الرؤوس في الفطر، وقيل {الصلاة} الدعاء {والزكاة} التطهير من كل عيب ونقص ومعصية. وقرأ {دُمت} بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ {دِمت} بكسرها أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وجماعة، وقرأ الجمهور {وَبَراً} بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله {مباركاً}، وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة {بِراً} بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله {مباركاً} فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه، وقال بعضهما نصبه بقوله {وأوصاني} أي وأوصاني براً بوالدتي حذف الجار كأنه يريد وأوصاني ببر والدتي. وحكى الزهراوي هذه القراءة {وبرٍّ} بالخفض عطفاً على {الزكاة}، وقوله {بوالدتي} بيان لنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها.
و الجبار المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنة الليل لا مسكن له. قال قتادة وكان يقول: سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي. وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإذلاله في ذلك، وذكر المواطن التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت. وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا إن هذا الأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد الى حالة الأطفال حتى مشى على عادة البشر. وقالت فرقة: إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن وكان يصوم ويصلي وهذا في غاية الضعف مصرح بجهالة قائلة.


المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى {ذلك} الذي منه قصة {عيسى بن مريم} وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد، {وأن الله ربي وربكم} هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلاً من البشر سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يتحمل أن يكون قوله {ذلك عيسى} الى قوله {فيكون} إخباراً لمحمد إعتراضاً أثناء كلام عيسى، ويكون قوله {وأن} بفتح الألف عطفاً على قوله {الكتاب} [مريم: 30]. وقد قال وهب بن منبه: عهد عيسى إليهم أن ربي وربكم، ومن كسر الألف عطف على قوله {إني عبد الله} [مريم: 30] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس {قولُ الحق} برفع القول على معنى هذا قول الحق. وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق {قولَ الحق} بنصب القول على المصدر. قال أبو عبدالرحمن المقري: كان يجالسني ضرير ثقة فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقرأ {قولَ الحق} نصباً، قال أبو عبدالرحمن: وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعاً. وقرأ عبد الله بن مسعود {قال الله} بمعنى كلمة الله، وقرأ عيسى {قال الحق} وقرأ نافع والجمهور {يمترون} بالياء على الكناية عنهم، وقرأ نافع أيضاً وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند {تمترون} بالتاء على الخطاب لهم، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول بعضهم هو لزنية ونحو هذا وهم اليهود، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم، وسيأتي شرح ذلك من بعد هذا. وقوله {ما كان لله أن يتخذ} معناه النفي وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت ثم يضاف الى ذلك بحسب حال المذكور فيها إما نهي وزجر كقوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا} [التوبة: 120] وإما تعجيز كقوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} [النمل: 60]، وإما تنزيه كهذه الآية. و{من ولد}، دخلت {من} مؤكدة للجحد لنفي الواحد فما فوقه مما يحتله نظير هذه العبارة إذا لم تدخل {من}، وقوله، {قضى أمراً}، أي واحداً من الأمور وليس بمصدر أمر يأمر، فمعنى {قضى} أوجد أو أخرج من العدم، وهذه التصاريف في هذه الأفعال من مضي واستقبال هي بحسب تجوز العرب واتساعها، وقد تقدم القول في {كن فيكون}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع {وأن الله} بفتح الألف وذلك عطف على قوله هذا {قول الحق}، {وإن الله ربي}، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {وإن} بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب {إن الله} بكسر الألف دون واو. وقوله {فاعبدوه} وقف ثم ابتداء {هذا صراط} أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8